فصل: ما يجب توفره في المقذوف به:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فقه السنة



.5- العفة:

وهي العفة عن الفاحشة التي رمي بها سواء أكان عفيفا عن غيرها أم لا، حتى أن من زنا في أول بلوغه ثم تاب وحسنت حالته وامتد عمره فقذفه قاذف، فإنه لا حد عليه.
وإن كان هذا القذف يستوجب التعزير لأنه أشاع ما يجب ستره وإخفاؤه.

.ما يجب توفره في المقذوف به:

أما ما يجب توفره في المقذوف به، فهو التصريح بالزنا أو التعريض الظاهر، ويستوي في ذلك القول والكتابة.
ومثال التصريح أن يقول موجه الخطاب إلى غيره: يا زاني أو يقول عبارة تجري مجرى هذا التصريح، كنفي نسبه عنه.
ومثال التعريض كأن يقول في مقام التنازع: لست بزان ولا أمي بزانية.
وقد اختلف العلماء في التعريض..فقال مالك: إن التعريض الظاهر ملحق بالتصريح، لأن الكفاية قد تقوم - بعرف العادة والاستعمال - مقام النص الصريح.
وإن كان اللفظ فيها مستعملا في غير موضعه، وقد أخذ عمر رضي الله عنه بهذا الرأي.
روى مالك عن عمرة بنت عبد الرحمن: أن رجلين استبا في زمان عمر بن الخطاب فقال أحدهما للاخر: والله ما أبي بزان ولا أمي بزانية فاستشار عمر في ذلك.
فقال قائل: مدح أباه وأمه.
وقال آخرون: قد كان لابيه وأمه مدح غير هذا نرى أن تجلده الحد فجلده عمر الحد ثمانين.
وذهب ابن مسعود، وأبو حنيفة، والشافعي، والثوري، وابن أبي ليلى، وابن حزم، والشيعة، ورواية عن أحمد: إلى أنه لا حد في التعريض، لأن التعريض يتضمن الاحتمال، والاحتمال شبهة.
والحدود تدرأ بالشبهات إلا أن أبا حنيفة والشافعي يريان تعزير من يفعل ذلك.
قال صاحب الروضة الندية: كاشفا وجه الصواب في هذا:
التحقيق أن المراد من رمي المحصنات المذكور في كتاب الله عز وجل هو أن يأتي القاذف بلفظ يدل - لغة أو شرعا أو عرفا - على الرمي بالزنا، ويظهر من قرائن الاحوال أن المتكلم لم يرد إلا ذلك، ولم يأت بتأويل مقبول يصح حمل الكلام عليه، فهذا يوجب حد القذف بلا شك ولا شبهة.
وكذلك لو جاء بلفظ لا يحتمل الزنا أو يحتمله احتمالا مرجوحا، وأقر أنه أراد الرمي بالزنا فإنه يجب عليه الحد.
وأما إذا عرض بلفظ محتمل ولم تدل قرينة حال ولا مقال على أنه قصد الرمي بالزنا، فلا شيء عليه، لأنه لا يسوغ إيلامه بمجرد الاحتمال.

.بم يثبت حد القذف:

الحد يثبت بأحد أمرين:
1- إقرار القاذف نفسه.
2- أو بشهادة رجلين عدلين.

.عقوبة القاذف الدنيوية:

يجب على القاذف إذا لم يقم البينة على صحة ما قال عقوبة مادية، وهي ثمانون جلدة.
وعقوبة أدبية، وهي رد شهادته وعدم قبولها أبدا والحكم بفسقه لأنه يصبح غير عدل عند الله وعند الناس.
وهاتان العقوبتان هما المقررتان في قول الله سبحانه وتعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم}.
وهذا متفق عليه بين العلماء إذا لم يتب القاذف.
بقي هنا مسألتان اختلف فيهما العلماء:

المسألة الأولى:
هل عقوبة العبد مثل عقوبة الحر أو لا؟ المسألة الثانية إذا تاب القاذف، هل يرد له اعتباره وتقبل شهادته أولا؟.
أما المسألة الأولى فهي أنه إذا قذف العبد الحر المحصن وجب عليه الحد، ولكن هل حده مثل حد الحر، أو على النصف منه؟.
لم يثبت حكم ذلك في السنة، ولهذا اختلفت أنظار الفقهاء، فذهب أكثر أهل العلم إلى أن العبد إذا ثبتت عليه جريمة القذف، فعقوبته أربعون جلدة، لأنه حد يتنصف بالرق، مثل حد الزنا.
يقول الله سبحانه: {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}. قال مالك: قال أبو الزناد سألت عبد الله بن عامر بن ربيعة عن ذلك فقال: أدركت عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، والخلفاء، وهلم جرا، فما رأيت أحدا جلد عبدا في فرية أكثر من أربعين.
وروي عن ابن مسعود، والزهري، وعمر بن عبد العزيز وقبيصة بن ذؤيب، والاوزاعي، وابن حزم، أنه يجلد ثمانين جلدة.
لأنه حد وجب، حقا للادميين، إذ أن الجناية وقعت على عرض المقذوف، والجناية لا تختلف بالرق والحرية.
قال ابن المنذر: والذي عليه الأمصار القول الأول، وبه أقول.
وقال في المسوى: وعليه أهل العلم.
وقد ناقش صاحب الروضة الندية الرأي الأول، وقال مرجحا الرأي الثاني:
الآية الكريمة عامة يدخل تحتها الحر والعبد، والغضاضة بقذف العبد للحر أشد منها بقذف الحر للحر، وليس في حد القذف ما يدل على تنصيفه للعبد، لا من الكتاب ولا من السنة.
ومعظم ما وقع التعويل عليه هو قوله تعالى في حد الزنا: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}.
ولا يخفى أن ذلك في حد آخر غير حد القذف.
فإلحاق أحد الحدين بالاخر فيه إشكال، لا سيما مع اختلاف العلة وكون أحدهم حقا لله محضا، والاخر مشوبا بحق آدمي.
أما المسألة الثانية:
فقد اتفق الفقهاء على أن القاذف لا تقبل شهادته ما دام لم يتب، لأنه ارتكب ما يستوجب الفسق، والفسق يذهب بالعدالة، والعدالة شرط في قبول الشهادة، وأنه لم يتب من فسقه هذا، والجلد، وإن كان مكفرا للاثم الذي ارتكبه ومخلصا له من عقاب الاخرة، إلا أنه لا يزيل عنه وصف الفسق الموجب لرد الشهادة.
ولكن إذا تاب وحسنت توبته، فهل يرد له اعتباره وتقبل شهادته أم لا؟.
اختلف الفقهاء في ذلك إلى رأيين:
الرأي الأول يرى قبول شهادة المحدود في قذف إذا تاب توبة نصرحا وهذا هو رأي مالك، والشافعي، وأحمد، والليث، وعطاء، وسفيان بن عيينة، والشعبي، والقاسم، وسالم، والزهري.
وقال عمر لبعض من حدهم في قذف: إن تبت قبلت شهادتك!.
أما الرأي الثاني فإنه يرى عدم قبولها، وممن ذهب إلى هذا: الأحناف، والاوزاعي، والثوري، والحسن، وسعيد بن المسيب، وشريح، وابراهيم النخعي، وسعيد بن جبير.
وأصل هذا الخلاف هو الاختلاف في تفسير قول الله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا}.
فهل الاستثناء في الآية راجع إلى الأمرين معا: أي عدم قبول الشهادة، والحكم بالفسق، أو راجع إلى الأمر الاخير، وهو الحكم بالفسق؟.
فمن قال أن الاستثناء راجع إلى الأمرين معا، قال بجواز قبول الشهادة بعد التوبة.
ومن قال إنه راجع إلى الحكم بالفسق، قال بعدم قبولها مهما كانت توبته.

.كيفية التوبة:

قال عمر رضي الله عنه: توبة القاذف لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي لا حد فيه.
وقال الذين شهدوا على المغيرة: من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما يستقبل ومن لم يفعل لم أجز شهادته.
فأكذب الشبل بن معبد، ونافع بن الحارث بن كلدة أنفسهما وتابا وأبى أبو بكرة أن يفعل، فكان لا يقبل شهادته.
وهذا مذهب الشعبي، ومحكي عن أهل المدينة، وقالت طائفة من العلماء: توبته أن يصلح ويحسن حاله، وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب، وحسبه الندم على قذفه والاستغفار منه وترك العود إليه.
وهذا مذهب مالك، وابن جرير.

.هل يحد بقذف أصله؟

قال أبو ثور وابن المنذر: إذا قذف القاذف ابنه فإنه يحد لظاهر القرآن الكريم فإنه لم يفرق بين قاذف ومقذوف.
وقالت الحنفية والشافعية: لا يحد، لأنه يشترط في القاذف أن لا يكون أصلا كالأب والأم، لأنه إذا لم يقتل الاصل به فعدم حده بقذفه أولى، وإن قالوا بتعزيره، لأن القذف أذى.

.تكرار القذف لشخص واحد:

إذا قذف القاذف شخصا واحدا أكثر من مرة، فعليه حد واحد إذا لم يكن قد حد لواحد منها، فإن كان قد حد لواحد منها ثم عاد إلى القذف، حد مرة ثانية، فإن عاد مرة ثالثة وهكذا يحد لكل قذف.

.قذف الجماعة:

إذا قذف القاذف جماعة ورماهم بالزنا، فقد اختلفت أنظار الفقهاء في في حكمه إلى ثلاثة مذاهب: المذهب الأول مذهب القائلين بأنه يحد حدا واحدا.
وهم أبو حنيفة، ومالك، وأحمد والثوري.
والمذهب الثاني مذهب القائلين بأن عليه لكل واحد حدا، وهم الشافعي والليث.
والمذهب الثالث مذهب الذين فرقوا بين أن يجمعهم في كلمة واحدة، مثل أن يقول لهم: يا زناة.
أو يقول: لكل واحد: يا زاني، ففي الصورة الأولى يحد حدا واحدا، وفي الثانية حد لكل واحد منهم.
قال ابن رشد: فعمدة من لم يوجب على قاذف الجماعة إلا حدا واحدا حديث أنس وغيره: أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سمحاء، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلاعن بينهما ولم يحد شريكا، وذلك إجماع من أهل العلم فيمن قذف زوجته برجل.
وعمدة من رأى أن الحد لكل واحد منهم أنه حق للآدميين، وأنه لو عفا بعضهم ولم يعف الكل لم يسقط الحد.
وأما من فرق بين من قذفهم في كلمة واحدة أو كلمات، أو في مجلس واحد أو في مجالس، فلأنه رأى أنه وجب أن يتعدد الحد بتعدد القذف، لأنه إذا اجتمع تعدد المقذوف وتعدد القذف، كان أوجب أن يتعدد الحد.

هل الحد حق من حقوق الله أو من حقوق الآدميين؟
ذهب أبو حنيفة إلى أن الحد حق من حقوق الله، ويترتب على كونه حقا من حقوق الله، أنه إذا بلغ الحاكم، وجب عليه إقامته، وإن لم يطلب ذلك المقذوف، ولا يسقط بعفوه، ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى، ويتنصف فيه الحد بالرق مثل الزنا.
وذهب الشافعي إلى أنه حق من حقوق الآدميين، ويترتب عليه أن الإمام لا يقيمه إلا بمطالبة المقذوف، ويسقط بعفوه، ويورث عنه ويسقط بعفو وارثه، ولا تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف.